فصل: تفسير الآيات (12- 13):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (12- 13):

{قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)}
قوله عز وجل: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} فإن أجابوك وإلا فـ {قُلْ} أنت، {لِلَّهِ} أمره بالجواب عقيب السؤال ليكون أبلغ في التأثير وآكد في الحجة، {كَتَبَ} أي: قضى، {عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} هذا استعطاف منه تعالى للمؤمنين عنه إلى الإقبال عليه وإخباره بأنه رحيم بالعباد لا يعجل بالعقوبة، ويقبل الإنابة والتوبة.
أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي أخبرنا أبو طاهر الزيادي أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان أنا أحمد بن يوسف السلمي أنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه قال ثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما قضى الله الخلق كتب كتابا فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي».
وروى أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة: «إن رحمتي سبقت غضبي».
أخبرنا الشيخ أبو القاسم عبد الله بن علي الكركاني أنا أبو طاهر الزيادي أنا حاجب بن أحمد الطوسي أنا عبد الرحمن المروزي أخبرنا عبد الله بن المبارك أنا عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تتعاطف الوحوش على أولادها، وأخر الله تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة».
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا ابن أبي مريم ثنا أبو غسان حدثني زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها، تسعى إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: «أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ فقلنا: لا وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال: الله أرحم بعباده من هذه بولدها».
قوله عز وجل: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} اللام فيه لام القسم والنون نون التأكيد مجازه: والله ليجمعنكم، {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي: في يوم القيامة، وقيل: معناه ليجمعنكم في قبوركم إلى يوم القيامة، {لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا} غبنوا، {أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}.
{وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي: استقر، قيل: أراد ما سكن وما تحرك، كقوله: {سرابيل تقيكم الحر} أي: الحر والبرد، وقيل: إنما خص السكون بالذكر لأن النعمة فيه أكثر، قال محمد بن جرير: كل ما طلعت عليه الشمس وغربت فهو من ساكن الليل والنهار، والمراد منه جميع ما في الأرض. وقيل معناه: ما يمر عليه الليل والنهار، {وَهُوَ السَّمِيعُ} لأصواتهم، {الْعَلِيمُ} بأسرارهم.

.تفسير الآية رقم (14):

{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)}
قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا}؟ وهذا حين دعا إلى دين آبائه، فقال تعالى: قل يا محمد أغير الله أتخذ وليا، ربا ومعبودا وناصرا ومعينا؟ {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} أي: خالقهما ومبدعهما ومبتديهما، {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} أي: وهو يَرْزق ولا يُرْزَق كما قال: {ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون}. {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} يعني: من هذه الأمة، والإسلام بمعنى الاستسلام لأمر الله، وقيل: أسلم أخلص، {وَلا تَكُونَنَّ} يعني: وقيل لي ولا تكونن، {مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.

.تفسير الآيات (15- 17):

{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)}
{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} فعبدت غيره {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} يعني: عذاب يوم القيامة.
{مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ} يعني: من يصرف العذاب عنه، قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ويعقوب {يصرف} بفتح الياء وكسر الراء، أي: من يصرف الله عنه العذاب، لقوله: {فقد رحمه} وقرأ الآخرون بضم الياء وفتح الراء، {يَوْمَئِذٍ} يعني: يوم القيامة، {فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} أي: النجاة البينة.
قوله عز وجل: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ} بشدة وبلية، {فَلا كَاشِفَ لَهُ} لا رافع، {إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ} عافية ونعمة، {فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} من الخير والضر.
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أبو عبد الله السلمي أنا أبو العباس الأصم أنا أحمد بن شيبان الرملي أنا عبد الله بن ميمون القداح أنا شهاب بن خراش، هو ابن عبد الله عن عبد الملك بن عمير عن ابن عباس قال: أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة، أهداها له كسرى فركبها بحبل من شعر، ثم أردفني خلفه، ثم سار بي مليا ثم التفت إليّ فقال: يا غلام، فقلت: لبيك يا رسول الله، قال: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، وقد مضى القلم بما هو كائن، فلو جهد الخلائق أن ينفعوك بما لم يقضه الله تعالى لك لم يقدروا عليه، ولو جهدوا أن يضروك بما لم يكتب الله تعالى عليك، ما قدروا عليه، فإن استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين، فافعل فإن لم تستطع فاصبر فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا واعلم أن النصر مع الصبر، وأن مع الكرب الفرج، وأن مع العسر يسرا».

.تفسير الآيات (18- 21):

{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)}
{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} القاهر الغالب، وفي القهر زيادة معنى على القدرة، وهي منع غيره عن بلوغ المراد، وقيل: هو المنفرد بالتدبير الذي يجبر الخلق على مراده، فوق عباده هو صفة الاستعلاء الذي تفرد به الله عز وجل. {وَهُوَ الْحَكِيمُ} في أمره، {الْخَبِيرُ} بأعمال عباده.
قوله عز وجل: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً}؟ الآية، قال الكلبي: أتى أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أرنا من يشهد أنك رسول الله فإنا لا نرى أحدا يصدقك، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر، فأنزل الله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ} أعظم، {شَهَادَةً}؟ فإن أجابوك، وإلا {قُلِ اللَّهُ} هو {شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} على ما أقول، ويشهد لي بالحق وعليكم بالباطل، {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ} لأخوفكم به يا أهل مكة، {وَمَنْ بَلَغَ} يعني: ومن بلغه القرآن من العجم وغيرهم من الأمم إلى يوم القيامة.
حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد بن الحنفي أنا محمد بن بشر بن محمد المزني أنا أبو بكر محمد بن الحسن بن بشر النقاش أنا أبو شعيب الحراني أنا يحيى بن عبد الله بن الضحاك البابلي أنا الأوزاعي حدثني حسان بن عطية عن أبي كبشة السلولي عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ معقده من النار».
أخبرنا أبو الحسن عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نضر الله عبدا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها. فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة للمسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم».
قال مقاتل: من بلغه القرآن من الجن والإنس فهو نذير له، وقال محمد بن كعب القرظي: من بلغه القرآن فكأنما رأى محمدا صلى الله عليه وسلم وسمع منه، أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى؟ ولم يقل أخر لأن الجمع يلحقه التأنيث، كقوله عز وجل: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} [الأعراف، 180]، وقال: {فما بال القرون الأولى} [طه، 51] {قُلْ} يا محمد إن شهدتم أنتم، فـ {لا أَشْهَدُ}، أنا أن معه إلها، {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}.
قوله عز وجل: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ}، يعني: التوراة والإنجيل، {يَعْرِفُونَهُ}، يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم بنعته وصفته، {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}، من بين الصبيان. {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ}، غبنوا أنفسهم {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}، وذلك أن الله جعل لكل آدمي منزلا في الجنة ومنزلا في النار، وإذا كان يوم القيامة جعل الله للمؤمنين منازل أهل النار في الجنة، ولأهل النار منازل أهل الجنة في النار، وذلك الخسران.
قوله عز وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ}، أكفر، {مِمَّنِ افْتَرَى}، اختلق، {عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}، فأشرك به غيره، {أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ}، يعني: القرآن، {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}، الكافرون.

.تفسير الآيات (22- 24):

{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)}
{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا}، أي: العابدين والمعبودين، يعني: يوم القيامة، قرأ يعقوب {يحشرهم} هاهنا، وفي سبأ بالياء، ووافق حفص في سبأ، وقرأ الآخرون بالنون، {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}، أنها تشفع لكم عند ربكم.
{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ}، قرأ حمزة والكسائي ويعقوب {يكن} بالياء لأن الفتنة بمعنى الافتتان، فجاز تذكيره، وقرأ الآخرون بالتاء لتأنيث الفتنة، وقرأ ابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم {فتنتهم} بالرفع جعلوه اسم كان، وقرأ الآخرون بالنصب، فجعلوا الاسم قوله: {أن قالوا} وفتنتهم الخبر، ومعنى قوله: {فتنتهم} أي: قولهم وجوابهم، وقال ابن عباس وقتادة: معذرتهم والفتنة التجربة، فلما كان سؤالهم تجربة لإظهار ما في قلوبهم قيل فتنة.
قال الزجاج في قوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} معنى لطيف وذلك مثل الرجل يفتتن بمحبوب ثم يصيبه فيه محنة فيتبرأ من محبوبه، فيقال: لم تكن فتنت إلا هذا، كذلك الكفار فتنوا بمحبة الأصنام ولما رأوا العذاب تبرأوا منها، يقول الله عز وجل: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} في محبتهم الأصنام، {إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}، قرأ حمزة والكسائي {ربنا} بالنصب على نداء المضاف، وقرأ الآخرون بالخفض على نعت والله، وقيل: إنهم إذا رأوا يوم القيامة مغفرة الله تعالى وتجاوزه عن أهل التوحيد قال بعضهم لبعض: تعالوا نكتم الشرك لعلنا ننجوا مع أهل التوحيد، فيقولون: والله ربنا ما كنا مشركين، فيختم على أفواههم وتشهد عليهم جوارحهم بالكفر.
فقال عز وجل: {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ}، باعتذارهم بالباطل وتبريهم عن الشرك، {وَضَلَّ عَنْهُمْ} زال وذهب عنهم {مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} من الأصنام، وذلك أنهم كانوا يرجون شفاعتها ونصرتها، فبطل كله في ذلك اليوم.

.تفسير الآيات (25- 26):

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)}
قوله عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} الآية، قال الكلبي: اجتمع أبو سفيان بن حرب وأبو جهل بن هشام والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية وأبي ابنا خلف والحارث بن عامر، يستمعون القرآن فقالوا للنضر: يا أبا قتيلة ما يقول محمد؟ قال: ما أدري ما يقول إلا أني أراه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين، مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية، وكان النضر كثير الحديث عن القرون وأخبارها. فقال أبو سفيان: إني أرى بعض ما يقول حقا، فقال أبو جهل: كلا لا نقر بشيء من هذا، وفي رواية: للموت أهون علينا من هذا، فأنزل الله عز وجل: {ومنهم من يستمع إليك} وإلى كلامك، {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً}، أغطية، جمع كنان، كالأعنة جمع عنان، {أَنْ يَفْقَهُوهُ}، أن يعلموه، قيل: معناه أن لا يفقهوه، وقيل: كراهة أن يفقهوه، {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا}، صمما وثقلا هذا دليل على أن الله تعالى يقلّب القلوب فيشرح بعضها للهدى، ويجعل بعضها في أكنة فلا تفقه كلام الله ولا تؤمن، {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ}، من المعجزات والدلالات، {لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ}، يعني: أحاديثهم وأقاصيصهم، والأساطير جمع: أسطورة، وإسطارة، وقيل: هي الترهات والأباطيل، وأصلها من سطرت، أي: كتبت.
{وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} أي: ينهون الناس عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم {وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ}، أي: يتباعدون عنه بأنفسهم، نزلت في كفار مكة، قاله محمد بن الحنفية والسدي والضحاك، وقال قتادة: ينهون عن القرآن وعن النبي صلى الله عليه وسلم ويتباعدون عنه.
وقال ابن عباس ومقاتل نزلت في أبي طالب كان ينهى الناس عن أذى النبي صلى الله عليه وسلم ويمنعهم وينأى عن الإيمان به، أي: يبعد، حتى رُوي أنه اجتمع إليه رءوس المشركين وقالوا: خذ شابا من أصبحنا وجها، وادفع إلينا محمدا، فقال أبو طالب: ما أنصفتموني أدفع إليكم ولدي لتقتلوه وأربي ولدكم؟ وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاه إلى الإيمان، فقال: لولا أن تعيرني قريش لأقررت بها عينك، ولكن أذب عنك ما حييت. وقال فيه أبياتا:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم ** حتى أوسد في التراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ** وابشر بذاك وقر بذاك منك عيونا

ودعوتني وعرفت أنك ناصحي ** ولقد صدقت وكنت ثم أمينا

وعرضت دينا قد علمت بأنه ** من خير أديان البرية دينا

لولا الملامة أو حذار سبة ** لوجدتني سمحا بذاك مبينا

{وَإِنْ يُهْلِكُونَ}، أي: ما يهلكون، {إِلا أَنْفُسَهُمْ} أي: لا يرجع وبال فعلهم إلا إليهم، وأوزار الذين يصدونهم عليهم، {وَمَا يَشْعُرُونَ}..